الاثبات العلمي بالادلة المادية والقيمة القانونية



الاثبات العلمي بالادلة المادية والقيمة القانونية
   

لقد أصبح للقضاء النزيه والعادل منزلة رفيعة كملاذ لطالب العدالة والإنصاف، يدرأ عنه ظلم الظالم ويفصل في المنازعات والخصومات ، ويعطي كل ذي حق حقه، من خلال ما أنيط بالقضاة من واجب الفصل في هذه الخصومات. ولما كان ذلك ومن واجب القاضي، فقد طرحَ نفسهُ على مر العصور التساؤل التالي:
   ماذا يفعل القاضي إذا ما عرضت عليه مسائل علمية أو فنية لا يمكنه الإحاطة بها ؟ خصوصاً وعصرنا الحاضر يشهد تطوراً علمياً وتقنياً مضطرداً في كافة مناحي الحياة، وقد انتهى زمن الإنسان الموسوعي،أي العالم الذي يلم بالعلوم الرياضية، والطبيعية، وفي الفلك، والطب، وغيرها، وإنما أصبح المرء، مهما أوتى من العلم والثقافة، غير قادر على متابعة ما يستجد في جوانب متخصصة من فروع هذه العلوم المختلفة.. فكيف بنا ونحن نطلب ذلك من القاضي، رغم ما يستوجبه عمله من إحاطة بالعلوم والثقافة، عدا الإلمام الشامل بالقانون ؟
   في هذا الصدد يقول أحد شرّاح القانون:"لا يشترط في القاضي أن يكونَ دائرة معارف، ملماً بدقائق كل علم وفن. وإذا كان من واجبه أن يكون ذا اطلاع واسع، حتى يمحص الأشياء، ويزن الأمور بموازينها الصحيحة، فإن الواجب يقتضي أن نقرر بأن القاضي هو صاحب اختصاص قانوني صرف، أعظم جهوده في دراسة القانون" ..
   إذن فماذا يفعل القاضي إزاء المسائل غير القانونية التي لا يستطيع الإلمام بها ؟
    أعتقد أن ما ذكرناه بشأن العلاقة بين القضاء والطب العدلي يتيح لكم معرفة الجواب، وهو ان القاضي إذا وجد نفسه أمام جريمة يستدعي اكتشافها معرفة خاصة،غير القانون وعلم الإجرام، فمن واجبه أن يستعين بأرباب الاختصاص والمعرفة وذوي الخبرة الآخرين لاستجلاء غوامضها.

دور الخبرة في كشف اَثار الجريمة

مسائل الخبرة من التعدد والتنوع إلى الحد الذي لا يمكن حصرها.وقد شاعت بعض جوانب الخبرة العلمية والفنية في مجال التحقيق والإثبات الجنائي، وكثر لجوء المحققين إليها في كشف أسرار الجرائم. وشهدت اكتشافات علمية تعد بمثابة ثورة في مجال التحقيق الجنائي ومنها:
1- الخبرة في مجال البصمات Finger prints:- إذ تلعب بصمات الأصابع والأكف والأقدام أثراً بارزاً في الإثبات الجنائي عندما يعثر عليها في مسرح الجريمة، أو عندما يتم التوقيع على السندات ببصمات الأصابع، وتلعب الخبرة الفنية العلمية دورها في كشف البصمات وتحديد أماكنها ورفعها وإجراء المقارنات بينها، ونَسبِها إلى أصحابها.
2- الخبرة في مجال مخلفات إطلاق النار: يتخلف عن عملية إطلاق النار من الأسلحة النارية الكثير من الآثار المادية، كالظروف الفارغة، ورؤوس الطلقات النارية، وأملاح البارود المحترقة، الخ.
    تؤدي الخبرة العلمية دورها في تحديد الأسلحة التي أطلقت منها الظروف الفارغة التي تضبط في مسرح الجريمة، ورؤوس الطلقات التي تستخرج من أجساد الضحايا، ومن خلال مقارنتها مع عينات الأسلحة المشتبه بها،يتم تحديد الأسلحة التي أطلقت منها على نحو قاطع وحاسم. كما أن إجراء الاختبارات على مخلفات الإطلاق وأملاح البارود المحترق على أيدي مطلقي النار، مفيد جداً في التحقيق في قضايا الانتحار، وغيرها من الجرائم.
3- الخبرة في مجال فحص آثار الآلات: كثيراً ما تستخدم الآلات في ارتكاب الجرائم كأدوات الخلع والكسر والنشر والثقب والقص وغيرها. فهذه جميعها تترك آثارها على الأجسام والمعادن والأخشاب والورق ويمكن من خلال الخبرة العلمية تحديد هذه الأدوات على نحو دقيق.
4- الخبرة في فحص آثار الحرائق: أن الخبرة العلمية في فحص مخلفات الحرائق تكشف ما إذا استعملت مواد بترولية أو خلافها في إضرام الحرائق، أو ما إذا كانت ناجمة عن تماس كهربائي. وكل ذلك مفيد في تحديد أسباب الحريق، وفيما إذا كان عرضياً أم متعمداً.
5- الخبرة في مجال المفرقعات والمتفجرات : يقوم الخبراء بالتقاط مخلفات حوادث المتفجرات، وفحصها، وتحديد أنواعها، لأهمية ذلك في إثبات الركن المادي لهذه الجرائم، وأسلوب ارتكابها.
6- الخبرة في مجال المخدرات والمسكرات: الخبرة تلعب دوراً هاماً، من خلال تحليل المضبوطات، أو عينات الجسم، كالدم، أو البول، أو إفرازات مَعِدية( عينات من المعدة) إذ يمكن اكتشاف وجود هذه المواد ونسبتها في الجسم. وهذا الأمر على غاية من الأهمية في اكتشاف كثير من جرائم القتل والانتحار والتسمم وتعاطي المخدرات والمسكرات.
7- الخبرة في مجال التحاليل البيولوجية: تشمل اختبارات سوائل الجسم، كالدم، والعرق، والبول، واللعاب، واختبارات الأنسجة، والشعر. وهذه جميعها مهمة في الإثبات الجنائي، وإثبات البنوة والنسب. وقد عزز من أهمية هذه الاختبارات ما شهده التطور العلمي في مجال اختبارات الحامض النووي الرايبوزي منقوص الأوكسجين(DNA)` إذ أصبح يشكل بصمة وراثية تميز الأشخاص وأنسابهم على نحو حاسم.
8- الخبرة في مجال الخطوط والمستندات: وهذا الجانب العام من جوانب الخبرة العلمية ذو أهمية بالغة في إثبات جرائم التزوير، وكثير من الجرائم، من خلال ما يتم من اختبارات للوثائق، والمستندات، والخطوط اليدوية والآلية.

القيمة القانونية للدليل الطبي العدلي

ضمن أشغال الملتقـى الوطنـي حـول الطـب الشرعـي القضائـي- الواقع والآفاق – الذي إنعقد يومي 25 و 26/5/ 2005، قدم القاضيان: تلماتين ناصر و بن سالم عبد الرزاق،بحثاً تحت عنوان:عرض حول الطب الشرعي والأدلة الجنائية،تناولا فيه القيمة القانونية للدليل الطبي العدلي عبر كامل مراحل الإجراءات الجزائية.جاء فيه:

I – تحقيقات الشرطة القضائية:
   يكتسي في هذه المرحلة الدليل الطبي العدلي أهمية بالغة، بالنظر إلى المرحلة المبكرة التي يُجمعُ فيها (مباشرة بعد وقوع الجريمة)، ونظرا للطابع المؤقت لبعض الأدلة الطبية العدلية القابلة للزوال أو التغير بالزمن ( إجراء أخذ العينات المنوية على ثياب أو جسم الضحية، أو في حالة رفع الجثة ووضعيتها، وبعض الآثار الموجودة في مكان الجريمة ).
   ويساعد الدليل الطبي العدلي: أولا- على إثبات وقوع الجريمة، وظروف وقوعها. ثانيا- على إثبات نسبتها إلى شخص أو نفيها عنه، إضافة إلى تحديد هوية الضحية في بعض الحالات.
    ويوصي القاضيان ناصر وعبد الرزاق بوجوب التمييز في هذه المرحلة بين حالتين:
أ – الحالة الأولى: التحقيق الأولي Preliminary investigation:
    وهي الحالة التي يتلقى فيها ضابط الشرطة القضائية الشكاوى والبلاغات عن وقوع جرائم ( سواء مباشرة أو عن طريق وكيل النيابة ). فيقوم بإجراءات البحث والتحري. وله في هذه الحالة الاستعانة بالأدلة الطبية العدلية. علما أن المشرع الجزائري لم ينص صراحة على هذه الإمكانية، واكتفى بالنص على جمع الأدلة والبحث عن مرتكبي الجرائم. كما لم يحدد إجراءات جمع الإستدلالات التي تترك لتقدير رجال الضبط القضائي حسب ظروف كل جريمة بضمانات الوجاهية والتي تسمح للمشتبه فيه أو الضحية بمناقشة طريقة تعيين الخبير ونتائج خبرته بالمطالبة مثلا برده أو باللجوء إلى الخبرة المضادة، وبالخصوص عندما يكون الدليل الطبي العدلي يتسم بالطابع المؤقت- كما رأينا أعلاه، وهي الحالة التي لا يمكن تداركها على مستوى التحقيق القضائي.
ب – الحالة الثانية: الجريمة المتلبس بها:
   قد تكتشف الجريمة فور وقوعها أو بعد ذلك بوقت قصير، وخلافا للأحكام التي تنظم التحقيق الأولي، وبصفة استثنائية، فقد نص المشرع على إعطاء صلاحيات أوسع لضابط الشرطة القضائية في ميدان البحث والتحري عن الأدلة التي تقترب من صلاحيات القاضي المحقق،بالنظر إلى الظروف الخاصة التي تحيط بالجريمة ورد فعل المجتمع الذي يتطلب سرعة التدخل والحفاظ على الأدلة. وفي هذا الإطار نص المشرع الجزائري صراحة بموجب أحكام المادة 49 من قانون الإجراءات الجزائية أنه لضابط الشرطة القضائية حق الاستعانة بالخبراء في المجال الطبي العدلي على أن يؤدوا اليمين.وهي نفس الصلاحيات التي يتمتع بها ضابط الشرطة القضائية في حالة ندبه من قبل وكيل النيابة عند العثور على جثة شخص، وكان سبب الوفاة مجهولا أو مشتبها فيه[[1]].

2- الدليل الطبي العدلي في مرحلة التحقيق القضائي:
    تتولى جهات التحقيق القضائي استغلال الأدلة التي تم جمعها- كما رأينا على مستوى تحقيقات الشرطة القضائية- مع تعزيزها بأدلة قضائية جديدة، ذلك أنه طبقا لقانون الإجراءات الجزائية فإن قاضي التحقيق يقوم بالتحري عن أدلة الاتهام وأدلة النفي.
   وتجدر الإشارة في هذا المقام، وتكريسا لمبدأ قرينة البراءة، عن الدور الهام الذي يلعبه الدليل الطبي العدلي في نفي الجرائم بالنسبة لأشخاص أشتبه في قيامهم بها أو تم اتهامهم بها.
   ويخضع الدليل الطبي العدلي في هذه المرحلة إلى مبدأ الوجاهية The contradictory إذ يتم مواجهة الأطراف بالأدلة وتلقي أوجه دفاعهم أو ملاحظاتهم بخصوصها.كما يخضع هذا الدليل إلى مبدأ حرية الإثبات والذي كرسه المشرع الجزائري في المادة 212 من قانون الإجراءات الجزائية، والذي بموجبه لا يتقيد القاضي المحقق بوسيلة إثبات ولو كانت علمية في إثبات أو نفي نسبة الجريمة لشخص.
   وبالإضافة إلى ما سبق فإن تقدير القوة الثبوتية للدليل تترك في هذه المرحلة وكذا في مرحلة المحاكمة- كما سنرى- إلى قناعة القاضي، وهو ما كرسته المادة 212 من قانون الإجراءات الجزائية، والتي تساوي بين الدليل الطبي العدلي والدليل العلمي بصفة عامة، وبين باقي الأدلة من شهادة شهود، واعتراف وغيرها (عدم تدرج القوة الثبوتية للدليل).
   وهنا يجب- حسب رأي القاضيان ناصر و عبد الرزاق- التفكير في إمكانية إعطاء قوة ثبوتية أقوى للدليل العلمي خاصة لما يتميز به من موضوعية ودقة، دون إهمال بأن الحقائق التي توضع في متناول القاضي باستعمال التقنيات العلمية قد تؤدي أحيانا إلى المساس باقتناعه الشخصي يفرض عليه معطيات علمية غير قابلة للتشكيك فيها، وهو ما قد يؤثر سلبا على مجريات التحقيق القضائي، إذا سلمنا بإمكانية تزييف الدليل العلمي أو خطئه من جهة، وبنسبيته في الإجابة عن بعض التساؤلات من جهة أخرى.
   ويجدر لفت الانتباه إلى أن تقييد تقدير القاضي بالدليل العلمي من شأنه إعطاء التقنيين (الخبراء) سلطات حقيقية في إطار ما يسمى بالوظيفة القضائية Judicial function.
.   كما أن إهمال القاضي المحقق خاصة للدليل العلمي يؤدي حتما إلى التأثير على نتائج التحقيق بحرمانها من شرعية تستمد من الصرامة العلمية The scientific rigor.
   إضافة إلى هذا، فإن سلطة تقدير القاضي للقيمة القانونية للدليل الطبي العدلي، دون إمكانية مناقشته له، لعدم تحكمه في هذا المجال من المعرفة، يثير كذلك عدة إشكالات على المستوى العملي.
   ودائما في الميدان العملي فإنه يتعين التأكيد على المكانة المميزة التي يحتلها الدليل الطبي العدلي في تفكير القاضي في مجال الدليل الذي غالبا ما يؤخذ به في تكوين اقتناعه الشخصي.

3- الدليل الطبي العدلي في مرحلة المحاكمة:
    يعرض الدليل الطبي العدلي، كغيره من الأدلة، لتقديره من قبل جهات الحكم خلال التحقيق النهائي Instruction final الذي يخضع- كما سبق الإشارة إليه- لمبادىء قرينة البراءة ( أي الإثبات على جهة الاتهام ) وحرية الإثبات والاقتناع الشخصي للقاضي. وهنا يجب التمييز بين جهات الحكم المكونة من قضاة محترفين فقط ( جنح، مخالفات) وبين تلك المكونة من قضاة محترفين وقضاة ( محلفين ) غير محترفين.
   كقاعدة عامة،يتقيد القاضي الجزائي بالأدلة التي تقع مناقشتها بالجلسة بصفة وجاهية (المادة 302 من قانون الإجراءات الجزائية) بالنسبة لمحكمة الجنايات، و(المادة 234 من قانون الإجراءات الجزائية) بالنسبة لمحكمة الجنح والمخالفات.غير أنه بحكم تقدير القاضي للدليل الذي يقدم، بما فيه الدليل الطبي العدلي، إلى حرية الإثبات، فليس على القاضي أن يتقيد وجوبا بدليل علمي معين مثلا لإثبات نسبة جريمة إلى متهم أو عدم نسبتها إليه، على عكس ما هو معمول به في الدول التي تأخذ بنظام الدليل القانوني System of legal evidence، كما يخضع تقدير قيمة الدليل الطبي العدلي إلى مطلق الاقتناع الشخصي للقاضي The intimate conviction. وهو ما كرسه المشرع الجزائري بموجب المادة 307 من قانون الإجراءات فيما يخص محكمة الجنايات والتي تنص على عدم تقييد القضاة إلا بما قد تحدثه في إدراكهم أدلة الإثبات وأدلة النفي وعلى ضرورة إجابتهم على سؤال واحد يتضمن كل نطاق واجباتهم ( هل لديهم اقتناع شخصي؟ ) [[2]].




[1] - عرض حول الطب الشرعي والأدلة الجنائية،من إعداد القاضيين: تلماتين ناصر و بن سالم عبد الرزاق، أشغال الملتقـى الوطنـي حـول الطـب الشرعـي القضائـي- الواقع والآفاق- 2005،مصدر سابق.

[2] - عرض حول الطب الشرعي والأدلة الجنائية،من إعداد القاضيين: تلماتين ناصر و بن سالم عبد الرزاق،مصدر سابق.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اوامر قاضي التحقيق في قانون الاجراءات الجزائية الجزائري

التحقيق و علم النفس الجنائي

المسؤولية المدنية